في جلسة امتدت نصف ساعة جلست إيمان في حجرتها الصغيرة وقد أحاطت بالكون ظلمة الليل البهيم، جلست تحاور نفسها في أسف وحزن عميق وتقول:
هل ينبغي أن تكون حياتي على هذا النحو: أرفع صوتي على والدتي، وأفرط في الصلاة وقراءة القرآن، أقضي معظم وقتي في الجامعة مع صديقات ليس لهن هم غير الحديث عن أحدث الموضات وعلاقة الشباب بالفتيات؟
لا ـ هكذا قالت إيمان ـ لا يمكن أن تبقى حياتي هكذا بلا معنى ولا لون ولا رائحة، أين أنا من رمضان الفائت الذي تعرفت فيه على أخوات صالحات؟ أين أنا من رمضان الذي سكبت في العبرات وعاهدت ربي على التوبة وعدم مفارقة الصالحات؟
لماذا تركت مصحفك يا إيمان وتركت متابعة القنوات الدينية وجميل صحبتك بأخوات ينتقين أطايب الكلام كما يُنتقى أطايب الثمر؟
أنواع الأنفس:
إن الإجابة على كل هذه الأسئلة تكمن دائمًا في أمر هام خطير وهو ما يعرف (بمجاهدة النفس)، إن الفتيات في سن المراهقة ـ خاصة ـ في حاجة دائمة إلى مجاهدة النفس وضبطها.
فبمجاهدة النفس يكون الثبات على الطاعة ومقاومة المعاصي وسائر الشهوات (إن فقدان ضبط النفس يسبب لبعض المراهقين مشاكل جمة... فالمراهقون بحاجة إلى أسلوب ضبط نفس جيد في مواقف عدة، وعند وجود إغواءات مختلفة) [كيف تقولها للمراهقين، ريتشارد هيمان، ص(496)، بتصرف].
وقبل أن نتحدث عن كيفية مجاهدة النفس لابد أن تتعفرفي على أنواع الأنفس حتى تحسني التعامل معها، ومن هذه الأنفس:
النفس الأمارة بالسوء:
وهي النفس الداعية إلى الشرور والقبائح، الآمرة بالعصيان، قال الله تعالى: {إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسوء} (أي: إن هذا الجنس من الأنفس البشرية شأنه الأمر بالسوء لميله إلى الشهوات، وتأثيرها بالطبع، وصعوبة قهرها، وكفها عن ذلك {إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى} أي: إلَّا من رحم من النفوس فعصمها عن أن تكون أمارة بالسوء) [فتح القدير، الشوكاني، (4/43)].
إذًا النفس الأمارة بالسوء تدعو صاحبتها إلى أن تحقق كل ما تريد من الشهوات، فإن استجابت لها وقعت في العجز لا محالة لأن العاجزة هي من أتبعت نفسها هواها وتمنت على الله الأماني.
تلك هي العاجزة، أتدرين لماذا؟ لأنها انهزمت أمام هواها، فكلما تهوى نفسها شيئًا تسارع في تحصيله.
النفس اللوامة:
أما النوع الثاني من الأنفس، فهي النفس اللوامة، تلك النفس التي تكثر من اللوم لصاحبتها، فحينما تقعين في المعاصي والآثام حينما تخطئين في حق والديك، تجدين صوتًا من أعماق نفسك يعلو ليوبخك؛ فتندمي وتستشعري التقصير في حق الملك الجليل سبحانه وتعالى.
تلك النفس "اللوامة" ذكرها الله في كتابه فقال سبحانه وتعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 1-2].
(فأما يوم القيامة فمعروف، وأما النفس اللوامة، فقال قرة بن خالد عن الحسن البصري في هذه الآية: إن المؤمن ـ والله ـ ما نراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجر يمضي قُدُمًا ما يعاتب نفسه) [تفسير ابن كثير، (1/577)].
وفي سورة القيامة نجد ترابطًا بين تلك النفس اللوامة وبين يوم القيامة، إذ أقسم رب العزة سبحانه وتعالى بالاثنين بيوم القيامة وبالنفس اللوامة.
ولذلك فإن النفس اللوامة في حاجة دائمة إلى التذكير بيوم القيامة وبالآخرة، فمن أرادت أن تكون نفسها لوامة؛ عليها أن تذكرها دائمًا بيوم القيامة، فإن لامت نفسها على معصية تذكرها بيوم القيامة.
فإن تذكرت ذلك اليوم العظيم أصبحت نفسها لوامة، فهي علاقة طردية بين يوم القيامة والنفس اللوامة.
وعند هذا الحد تستطيعي أن تكتشفي بمفردك أن صاحبة النفس الأمارة بالسوء على العكس من ذلك تمامًا، فنفسها في مقابلة النفس اللوامة، وصاحبتها ـ أي النفس الأمارة بالسوء ـ تتساءل أيَّان يوم القيامة! لأنها تريد الفجور في حياتها المستقبلية؛ فتراها كارهة لذكر يوم القيامة فارة من ذكر الموت.
قال تعالى في سورة القيامة: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 5-6].
النفس المطمئنة:
النفس المطمئنة، وهي النوع الثالث من أنواع الأنفس وهي أشرف الأنواع وأزكاها، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (وحقيقة الطمأنينة: السكون والاستقرار فهي التي قد سكنت إلى ربها وطاعته وأمره وذكره ولم تسكن إلى سواه فقد اطمأنت إلى محبته وعبوديته وذكره واطمأنت إلى أمره ونهيه وخبره.
واطمأنت إلى لقائه ووعده واطمأنت إلى التصديق بحقائق أسمائه وصفاته واطمأنت إلى الرضى به ربًا وبالاسلام دينًا وبمحمد رسولًا، واطمأنت إلى قضائه وقدرهً واطمأنت إلى كفايته وحسبه وضمانه؛ فاطمأنت بأنه وحده ربها وإلهها ومعبودها ومليكها ومالك أمرها كله وأن مرجعها إليه وأنها لا غنى لها عنه طرفة عين) [إغاثة اللهفان، ابن القيم، (1/76)].
أهي النفس أم الشيطان؟
ولعل الأكثرية منا، عندما يراودهم بعض الوساوس يتبادر إلى أذهانهم سؤال مُلح، أهي دواعي نفسي وشهواتي، أم هي وساوس شيطاني وهمزاته؟حقيقة الأمر أن الشيطان يوسوس للمعصية أولًا.
فإن جاهدته أو رفضته تركك إلى معصية أخرى لأنه لا يريد منك معصية بذاتها، إنما شغله الشاغل أن يوقعكِ في وحل الذنوب ومستنقعات المعاصي والآثام، فأي معصية تقبلها منه يقبلها منك.
أما النفس فهي مختلفة لأنها تلح على معصية بعينها، فإذا وجدت أن نفسك تلح عليك فلا تظني أنه الشيطان، إنما هي النفس التي تشربت حب تلك المعصية وألفت العيش بتلك المعصية، وأنفت البعد عنها.
فالشيطان يبدأ ـ لذلك هو خطير ـ فهو يفتح أمامك مائة طريق لارتكاب المعاصي، ولكن النفس تختار واحدًا وتتشبث به كالطفل، فتجاهديها أنت كالأب الذي يمنع ابنه من التعلق بشئ يضره؛ فتستقيم.
تمامًا كما قال الإمام بن القيم:
والنفس كالطفل إن تهمله شبّ على
حب الرضاع وأن تفطمه ينفطم
واصرف هواها وحاذر أن توليه
إن الهوى ماتولى يصم أو يصم
وراعها وهي في الأعمال سائمة
وإن هي استحلت المرعى فلا تسم
كم حسنت لذة للمرء قاتلة
من حيث لم يدري أن السم في الدسم
واخش الدسائس من جوع ومن شبع
فرب مخمصة شر من التخم
واستفرغ الدمع من عين قد امتلأت
من المحارم والزم حمية الندم
واستحضري قلبك، واسمعي بأذن قلبك إلى قول الله سبحانه وتعالى حين قال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت69].
وقد جاء في تفسير القرطبي لهذه الآية: عن أبي سليمان الداراني أنه قال: "ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط! بل هو نصر الدين، والرد على المبطلين، وقمع الظالمين، وأعظمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله تعالى وهو الجهاد الأكبر.
ومعنى لنهدينهم سبلنا: أي لنخلصن نياتهم وصدقاتهم وصلواتهم وسائر أعمالهم، ونوفقهم لدين الحق ولطريق الجنة.
وأما المحسنون: فهم المؤمنون بنصر الله وعونه، والمحسنون لمن يسيء إليهم.
الطريق إلى مجاهدة النفس:
فإذا أردنا أيها الأحبة أن نروّض أنفسنا على مراد الله سبحانه وتعالى، فليس أقل من بعض الخطوات العملية التي أنصح بها كل راغبة صادقة في جهادها لنفسها:
أولًا، التربية الذاتية: ولعل هذه الخطوة من أهم الخطوات على طريق المجاهدة الصادقة، يقول ابن الجوزي وهو يتكلم عن تلك التربية الذاتية: "ومن أدب الجهاد إِن مالَت إٍلى الشَهوات فاكبِحها بِلِجامِ التَقوى، وإِن أعرضت عن الطاعات فسقها بسوط المجاهدة، وإن استحلت شراب التواني.
واستحسنت ثوب البطالة فصح عليها بصوت العزم. فإن رمقت نفسها بعين العجب فذكرها خساسة الأصل، فإنك والله ما لم تجد مرارة الدواء في حلقك، لم تقدر على ذرة من العافية في بدنك".
ثانيًا، الصحبة الصالحة: فصديق الخير يذكركي بالله ويحفظكي في حضرتك ومغيبك ويحافظ على سمعتك ويدلكي على كل خير ويعينكي على قطع أشواط طريق المجاهدة.
قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
ثالثًا، استغلال الوقت: يقول صلى الله عليه و سلم:" نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ" أي أن أوقات الفراغ لا يعلم الكثير كيف يتصرف فيها و هي من الأوقات التي يجب استغلالها في التقرب إلى الله و إن لم يكن كذلك فلا يجب أن تكون أوقاتا للمعصية.
رابعًا، التوكل على الله: إن اللجوء إلى الله سر كل نجاح و نسيان طلب المعونة منه هو سبب كل خذلان و من أراد الفوز في الدنيا و الآخرة فليتوكل على الله ثم ليأخذ بالأسباب و ليكن طلب العون من الله عن طريق الدعاء، "فمن أدمن قرع الباب أوشك أن يفتح له".
المصدر: موقع مفكرة الإسلام